رغم سحابة انعدام اليقين التي تحوم فوق مصير المفاوضات بين القوى العظمى وإيران، والتي استؤنفت هذا الأسبوع في فيينا، فإن صورة النوايا والمواقف الأمريكية واضحة تماماً. فكل الدلائل تشير إلى أن إدارة الرئيس بايدن (التي تشارك في الاتصالات بشكل غير رسمي) مصممة على إنهاء جولة المحادثات الحالية في اتفاق مع طهران حتى لو كان شكله ومحتواه مختلفين جوهرياً عن الهدف الطموح الذي وضعه “رجال الرئيس” فور دخول الرئيس الـ 46 إلى المكتب البيضاوي. وبالفعل، في السنة الأولى لولايته، ذاب تدريجياً المخطط الأولي “لتسوية شاملة” مع إيران، التي كان يفترض بها أن تسد الثغرات والنواقص التي في اتفاق فيينا الأصلي من العام 2015، بل وتعالج جذرياً المداميك الأخرى لـ “الرمز التشغيلي” الإيراني، بما فيه التآمر الإقليمي الذي ارتفع إلى مستوى عنيف جديد في شكل هجوم صاروخي للحوثيين ضد الإمارات وبرنامج الصواريخ الباليستية الذي لديها. الخطة الأولى والشاملة تحتلها اليوم صيغة ضيقة وناعمة من التسوية التي تقوم في أساسها على العودة إلى الخطوط الهيكلية لاتفاق 2015 بكل مظاهر الضعف والمخاطر الكامنة فيه، والتي تعاظمت في السنة الأخيرة على خلفية تسريع عملية تخصيب اليورانيوم حتى المستوى الذي يضع إيران اليوم على حافة تحقق حلمها النووي. إن قرار واشنطن، الأسبوع الماضي، رفع قسم من العقوبات عن صناعة النووي “المدنية” لطهران، والتي فرضتها إدارة ترامب في العام 2020، من جهة، وبالتوازي أيضاً الإشارات المهدئة تجاه إسرائيل، والتي تتضمن توثيق العلاقات الاستراتيجية مع إسرائيل وإعطاء “ضوء أخضر” ضمني على الأقل، لإسرائيل لممارسة التفكر الذاتي في حالة تهديد ملموس وفوري عليها – من جهة أخرى، هما اثنان من بين المؤشرات التي تعكس بإخلاص تطلع بايدن للوصول إلى اتفاق في أقرب وقت ممكن وبكل ثمن، وذلك رغم أن لا جديد في الشرق في كل ما يتعلق بمواقف إيران المتصلبة وغير المهاودة. وأي تفسير بديل، ربما يكون قد منح –بقرار الإدارة– النظام الإيراني سلفة سخية بهذا القدر في شكل تجميد جزئي للعقوبات من مصنع ترامب دون أي مقابل ملموس من جهتها، باستثناء رغبة واشنطن في إثبات نيتها الطيبة، وهكذا تؤسس لـ “شروط محبة” مع الحرس الثوري.
وفي ضوء ضعف بايدن في الساحة الدولية، الذي كان الانسحاب المفزع من أفغانستان تعبيراً بارزاً له، يقدر اليوم بأن الاتفاق سيمنحه نقاط استحقاق ويخلق برأيه استقراراً في المنطقة.
يبدو أن هذه روح الإرث الأمريكي الساذجة اليوم، التي تعود جذورها إلى عهد الرئيس فرنكلن روزفيلت الذي آمن حتى يومه الأخير بأن البادرات أحادية الجانب تجاه ستالين ستنتج رد فعل مطابق من جانب الطاغية السوفياتية، وتضع أساساً لقيام نظام عالمي جديد.
ولكن المعتقدات والأحلام في جهة، والواقع في جهة أخرى. إذ يتبين الآن بأن الكتلة الجمهورية في مجلس الشيوخ لا تعتزم المرور مرور الكرام على “اتفاق فيينا” الثاني، وستتطلع إلى أن تقلص مجال العمل والحسم للإدارة، رغم كونها كتلة الأقلية في المجلس، حتى لو لم تتخذ حكومة إسرائيل خطوات استفزازية ضد الصفقة التي على الطريق. المعركة على فيينا بدأت إذن، وفي واشنطن بالذات، وهذه في أساسها معركة على صورة وقيادة الصقر الإيراني الذي تحول منذ وقت غير بعيد إلى حمامة بيضاء.